كتابة: أحمد جمال (القاهرة)
إذا كان تعدد الزوجات مباحاً شرعاً بشروط، فهل يجوز للزوجة أن تطلب من القاضي منع زوجها من الزواج عليها طالما لا يوجد مبرر لذلك؟ سؤال يفرضه طلب بعض المنظمات النسائية أخيراً بمنح القضاء الحق في منع تعدد الزيجات، طالما أنه لا مبرر للرجل في الزواج على زوجته.
وعندما سألنا علماء الدين عن رأيهم في مثل هذا الطلب، كانت المفاجأة أن معظمهم اتجهوا إلى تأييده، وبالتالي، هل يمكن للزوجة التي يريد زوجها الزواج عليها دون مبرر أن تمنعه من هذا بالقانون؟ «لها» تحقّق.
تؤكد الدكتور عبلة الكحلاوي، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية، أن تعدّد الزوجات في الإسلام ليس مطلقاً، كما يفهم البعض، ومن الضروري أن يدرك الزوج أحكام الشرع في التعدد وضوابطه الدينية وواجباته تجاه كل زوجة من زوجاته، وإلا فالأصل الزوجة الواحدة. ومن حق القاضي إذا لم تكن ضوابط التعدد متوافرة منعه، ويجب على ولي الأمر أو الحاكم منح القاضي السلطات التي تمكنه من تنفيذ ذلك.
واستشهدت الكحلاوي بما ورد صراحةً في القرآن الكريم، في قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا» آية 3 سورة النساء، وتضيف: «من يتأمل الآية يجد أنها تشترط العدل بمفهومه الشامل، خاصةً في النواحي المالية والمبيت والقدرة على ذلك، وليس الزواج لمجرد الزواج، الذي يجب أن يكون وسيلة للمودة والرحمة وليس الإضرار ببعض الزوجات على حساب الأخريات، ولهذا جعل الله الزواج آيةً من آياته حين قال: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» آية 21 سورة الروم».
وتنهي الدكتورة عبلة كلامها مؤكدة أن الأصل في الزواج واحدة، والتعدد لا بد أن يكون له مبرر شرعي، كأن تكون الزوجة غير قادرة على الإنجاب أو مريضة ولا تستطيع الوفاء بمطالب الزوج، فيكون التعدد هنا حلاً لمشكلة قائمة وليس لمجرد التعدد إذا لم تكن هناك ضرورة تستدعيه، ولهذا ذمّ الإسلام كل رجل مزواج مطلاق، أي كثير الزواج والطلاق بدون ضرورة، لأن هذا يؤدي إلى الإضرار بأطراف آخرين، سواء زوجاته أو مطلقاته وأولاده منهن. ودعا إلى أن تسود روح التناصح وليس التعسف في الزواج، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة- ثلاثاً- قلنا: لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
منع الضرر
تشير الدكتورة فايزة خاطر، رئيسة قسم العقيدة في كلية الدراسات الإسلامية للبنات في الزقازيق جامعة الأزهر، إلى أن منع الضرر أحد الأهداف السامية للشريعة الإسلامية، وذلك لأن الضرر ظلم وقد حرّم الله تعالى الظلم على نفسه وجعله محرّماً بين البشر بوجه عام، ومنها بلا شك العلاقة الزوجية إذا قامت على غير أساس سليم يمنع العدل، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إِنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عِبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه».
وأوضحت الدكتورة فايزة، أنه لا حرج شرعاً في تنظيم تعدد الزوجات بنص وضعي، طالما أن الهدف نبيل والغاية شريفة، وهي منع الضرر وحماية الأسرة من نزوات بعض الأزواج غير العقلانية، والتي تدفع ثمنها الزوجات وأولادهن، ولهذا فإن هذا التنظيم للتعدد يدخل في إطار القاعدة الشرعية التي أرساها الحديث النبوي، الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».
ضوابط
يقول الدكتور صابر طه، عميد كلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر، إنه يتفق مع الرأي الفقهي القائل بأن التعدد مباح وليس واجباً، وبالتالي ليس حقاً بلا ضوابط للرجل على إطلاقه، لكن له شروط أوردها القرآن بصريح النص الذي قيّد التعدد، وهو العدل بين الزوجات، حيث يرى جمهور الفقهاء أن إباحة التعدد مقيّدة بالعدالة حتى لا تُظلم الزوجات، ولهذا فإن العدل المطلوب هو العدل الظاهر من حيث عدل القسمة بين الزوجات في المبيت والمساواة في الإنفاق عليهن والمعاملة الظاهرة.
وأوضح الدكتور صابر طه أن العدل الباطني في المشاعر والأحاسيس مستحيل ولا يستطيعه أحد، ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها، ولهذا روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعد ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»، بمعنى القلب.
وأنهى الدكتور صابر طه كلامه بالتأكيد أنه لا مانع شرعاً من سعي القاضي، من خلال القوانين، إلى إقامة العدل الظاهري على الأقل، ومعرفة قدرة الزوج على التعدد وقياس المصالح والمضار الناجمة عن ذلك، لأن القاعدة الشرعية: «درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة»، خاصةً أننا نجد بعض السفهاء قد أساء استخدام حق التعدد فنجده يتزوج في الصباح ويطلق في المساء، وإذا نصحته يقول لك: «الأصل في الزواج التعدد وأنا أتعبد إلى الله بالتعدد».
تحري العدل
أما الدكتورة سعاد صالح، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، فتؤكد أنه لا مانع شرعاً في تقنين التعدد وجعله مشروطاً بالقدرة للزوج والإذن من القاضي المخول له إقامة العدل بين الناس، في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمًّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» آية 58 سورة النساء.
وتضيف صالح أن منع الظلم في التعدد العشوائي، عملية تنظيمية يفوض فيها ولي الأمر القضاة باعتبار هذا من صميم عملهم، وعلى القاضي تنفيذ عمله بلا إفراط أو تفريط، لأن لكل حالة ظروفها التي يجب الحكم بناء عليها، فمثلاً على القاضي ألا يستمع إلى آراء دون التأكد منها حتى يبتعد عمله عن المكيدة من الفساق، سواء ممن يحاولون الحصول على موافقته أو منعه للتعدد، فيكون عمله محكوماً بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» آية 6 سورة الحجرات.
وأنهت الدكتورة سعاد كلامها بالتأكيد أنه ليس هناك مانع شرعاً من أن يكون حكم التعدد مرتبطاً بإذن القاضي العادل المنصف المخول بإقامة العدل ومنع الظلم على أي طرف، وأن يبني قراره بناءً على قدرة الرجل على الإنفاق والاستطاعة المادية والمعنوية لفتح بيت الزوجية الثاني.
تنظيم الحقوق
ويشير الدكتور صبري عبد الرؤوف، أستاذ الفقه المقارن جامعة الأزهر، إلى أن الله عندما شرّع تعدد الزوجات شرّعه لحلّ ما يعترض الأسرة من عقبات ومشكلات، فمثلاً جعل التعدد مباحاً بضوابطه الشرعية مع حفظ حقوق كل زوجة لتكون معززة مكرّمة، فإذا أفرز الواقع عكس ذلك بسبب الجهل بأمور الدين وتراجع خوف الله في نفوس بعض الأزواج، فإن العيب ليس في الشرع بل في الذين لا يعرفون تطبيقه أو يعرفون وينكرون لأهواء شخصية في أنفسهم، أما الزواج لمجرّد البطر بنعمة الله فهو مذموم مكروه.
ويضيف الدكتور صبري إلى أنّه يتّفق مع من يطالبون بوضع ضوابط عادلة تمنع ظلم الزوجات، وفي نفس الوقت تحل مشكلة الرجل وتحافظ على حقه الشرعي في التعدّد إذا كانت هناك ضرورة لذلك، كأن تكون زوجته مريضة لا تستطيع خدمته والوفاء بحقوقه الشرعية، فالتعدّد هنا أفضل مليون مرة من منعه وتركه ينحرف أخلاقياً، لأننا أغلقنا باب الحلال فتم اللجوء إلى الحرام، ولهذا لا مانع من أن تكون الإباحة بشروط عادلة ومنصفة لجميع الأطراف.
وأكّد الدكتور صبري إلى أنه من حق ولي الأمر تنظيم الحقوق وتقييد إجراءاتها، ولو كانت الشريعة مصدرها، بهدف ضبط استعمال هذا الحق وإحكام توقيعه، وهذا الحق لولي الأمر مقيّد بألاّ يكون هذا الأمر قد ورد فيه نص قطعي صريح في القرآن، فمثلاً لا يجوز أن يصدر قانون يحرم التعدد بالمطلق، وإنما يمكن وضع ضوابط تتفق عليها المؤسسات الدينية والاجتماعية والقانونية.
الفقر ليس مبرراً
يؤكد الدكتور محمود مزروعة، العميد الأسبق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر، إلى أنه لا ينبغي أن يكون فقر الزوج هو العامل الوحيد في تحديد حق الزوج في التعدد أم لا، لأننا لم نعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم منع تعدد الزواج لعدم قدرة الزوج على الإنفاق بسبب فقره، لأن الزواج نفسه قد يكون وسيلة لجلب الرزق الذي هو بيد الله وحده، لأنه سبحانه القائل: «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ» الآيتان 22-23 سورة الذاريات.
واستشهد الدكتور مزروعة على كلامه بأنه لا يجب أن يكون العامل المادي هو الفيصل في المنع الموقت لتعدد الزوجات، لأننا نجد في القرآن والسنة ما يدل على أن الزواج سبب من أسباب الغنى وسعة العيش، كمثل قوله تعالى: «وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» آية 32 سورة النور، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله إعانتهم… وذكر منهم الناكح يريد العفاف»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من تزوج فقد استكمل نصف الإيمان، فليتق الله في النصف الباقي».
ويضيف الدكتور محمود مزروعة: «لا بد من توعية الأزواج الذين يفكرون في التعدّد بضوابطه، وأهمية الاتصاف بالعدل المادي والحسّي، ومحاولة العدل المعنوي حتى لا تكون إحدى الزوجات كالمطلقة، وهذا ما عبّر عنه وحذر منه القرآن في قوله تعالى: «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» آية 129 سورة النساء، وفي نفس الوقت منع الضرر الذي لا يجب أن يكون بسيف القانون فقط، بل بالإقناع أفضل، لأن من نمنعه بالقانون سيلجأ إلى التعدد عن طريق الزواج العرفي المكتمل الأركان، وهذا حلال شرعاً، لأنه لا ينقصه سوى التوثيق، لأن من عناصر فاعلية القانون في ضبط وتنظيم التعدد أنه لو تيقّن القاضي من ظلم الزوج لإحدى زوجاته فمن حقه رفع الظلم بالنصح أولاً، فإن أصر الزوج فإن للقاضي أن يقضي بالتطليق للضرر إذا طلبت الزوجة الأولى ذلك، وليس بناءً على اقتراح منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع زواج أحد لعدم قدرته على الإنفاق أو حتى لعدم إثبات العدل بين الزوجات».
مخالف للشرع
يرفض الدكتور محمد عبد المنعم البري، الأستاذ في كلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر، أن يكون للقاضي حق منع تعدد الزيجات لأن التعدد حكم شرعي قائم بالنص القطعي الدلالة في القرآن الكريم، وقال العلماء: «لا اجتهاد مع النص الصريح»، وبالتالي فإن التعدد حكم شرعي غير مقيد وذلك بقوة النص القرآني.
وحذّر الدكتور البري من محاولة القوانين الوضعية التغريبية تعطيل العمل بحكم الشرع واستبداله، بحجة التطور المجتمعي وعدم موافقته لروح العصر، حيث نجد التعدّد مجرماً في القوانين الوضعية، رغم أن الدين لا يحرمه.
أضاف الدكتور البري: «القاضي أو الحاكم، الذي يحاول منع تعدد الزوجات، آثم شرعاً ولا يجوز طاعته، ومن حق الزوج التعدد بالضوابط الشرعية الواجب توافرها في الزواج، من الرضا والمهر وولي الأمر والإشهار والشهود، ولا قيمة لمنع القاضي الذي يريد أن يحرّم حلالاً بحجج غير مقبولة شرعاً، لأنه طالما نص القرآن عليه صراحة فيجب عدم البحث عن مبرّرات لمنعه».
المصدر msn
0 التعليقات:
إرسال تعليق